شؤون إيرانية:
دراسة سياسية- تاريخية تشمل فترة حكم الشيخ خزعل، الى انتفاضة نيسان لعام 2005
محمود احمد الأحوازي
الأحواز عند اندلاع ثورة فبراير 1979 في ايران
ان التغييرات العميقة التي طرأت على المجتمع الأحوازي في الفترة السابقة للثورة كانت من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية جذرية وشاملة ليس في المدن الكبرى وحسب، بل شملت هذه التغييرات القرى القريبة والبعيدة ايضا". وعندما دخل شعبنا الأيام الاولى للثورة ومسيراتها ومظاهراتها وتجمعاتها كانت العلاقات الاجتماعية والعشائرية الراسخة وسلبياتها مهتزة تماما حيث أصبحت بين أفراد القبيلة الواحدة أو بين قبيلة وأخرى، أصبحت مقتصرة على بعض الأخلاقيات الاجتماعية التي في جملتها ايجابية، حيث لم يبقى من سلبياتها إلا بعض العلاقات العائلية غير الديمقراطية ومنها "النهوة"(1)عند بعض القبائل وعدم السماح للبنت بالزواج على غير ابناء العائلة نفسها عند بعض القبائل الأخرى التي ترى لنفسها مكانة خاصة في المجتمع مثل البعض من السادة (المنتسبين للعائلة النبوية) والموالي المشعشعين والشيوخ وهذه في جملتها علاقات اجتماعية ترتبط بالثقافة الإسلامية والعربية واقتربت من نهايتها في الفترة الأخيرة. أما حول علاقة الشيخ بالقبيلة بعنوان إقطاعي ومالك للأرض والوسائل، فهذه العلاقة اقتربت من نهايتها في تلك الفترة بعد ما اتجه معظم الفلاحين للعمالة الى المدن واستقل معظمهم عن شيخ القبيلة في أرضه الزراعية ومياه ريه وأصبح الشيخ هو بحاجة لعلاقة أخوية اكثر منها علاقة استثمارية.
ومع إبعاد العلاقات القبلية عن تأثير الإقطاعيون والشيوخ، تطورت الكثير منها الى الأفضل حيث تأسست صناديق الفاتحة ودفع الدية (الفَصل) بالاستقلال نسبيا عن تسلط الشيخ ومع الحفاظ على اصل (السودة على أهلها) أي بمعنى تحمل المذنب ذنبه خاصة إذا كان الذنب غير الأخلاقي.
وبموازاة تلك التغييرات نمت العلاقات الاجتماعية المتأثرة بالتطورات الرأسمالية السابقة للثورة حيث اصبح الانتماء القومي قادر على اكتساح العلاقات الإقطاعية الانعزالية شيء فشيء. وكان لهذه التطورات أسبابها ونتائجها ونمر على أسبابها سريعا" ونتأمل عند نتائجها من اجل اخذ الدروس:
منذ أوائل الستينات وبعد التطورات التي حصلت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الايرانية عامة ونتيجة لتدفق دولارات النفط خاصة بعد ارتفاع أسعاره بعد حرب 1973 بين العرب وإسرائيل وبيع ايران بين 4 و6 ملايين برميل يوميا، بدأت الحياة الاجتماعية تسير باتجاه تطور اجتماعي واقتصادي سريع يسير عليه المجتمع النصف إقطاعي في كافة أنحاء ايران تقريبا" والأحواز من جملتها. ازدادت في هذه الفترة الاستثمارات الحكومية في حقل الصناعة والتجارة والخدمات العامة وبدأت الشركات الأجنبية والإيرانية استثماراتها في الأسواق التجارية والصناعية الايرانية حيث ظهرت الشركات والمراكز الصناعية وفروعها في ضواحي المدن الكبرى مما اضطر السلطات في تلك الفترة لاستقدام الكثير من العمال الأجانب من الهند(سائقين شاحنات) ومن الفيليبين وكوريا الجنوبية(عمال موانئ وسائقين رافعات)لنقل البضائع من موانئ المحمرة وعبادان ومعشور وغيرها الى المدن والاقضية الايرانية المختلفة وللعمل في الموانئ الكبرى ضمن شركات متعاقدة مع السلطة لتفريق حمولة البواخر التجارية. وكان للأخصائيين الأوروبيين والعمال الصناعيين السهم الأكبر في هذا الصعيد حيث كانت عمدة الصناعات النفطية في كل فروعها من الإدارة والتكرير والتصدير والتنقيب واكتشاف النفط وصناعة البتر وكيماويات وغيرها يديرها أخصائيين أوروبيين. كما كان للأمريكان ما يتجاوز السبعة وعشرين ألف عسكري لبناء وتطوير الجيش الإيراني الحديث الذي كان عليه المحافظة على المصالح الغربية وخاصة الأمريكية في المنطقة. ايضا كان للدول الاشتراكية وخاصة الاتحاد السوفييتي الكثير من المهندسين في المصنع العملاق لصهر الحديد في إصفهان وفي مصانع الحديد والصلب في الاحواز مثل ما كان للرومانيين أخصائيين في شركة تركيب قطع التراكتور في تبريز.
وتزامنا" مع هذه التطورات كان المجتمع بحاجة الى تغييرات تمكن السلطة من الاستمرار في مشاريعها
المرتبطة بهذه الاستثمارات الواسعة والكبيرة وتوفير المناخ الاجتماعي المناسب للشركات الدولية والوطنية والتجمعات الصناعية وخاصة تأمين اليد العاملة وتوفيرها، ومن هذا المنطلق وحيث ان العلاقات الإقطاعية والنصف إقطاعية في ايران لا تتماشى مع هذا الاتجاه في الحركة الصناعية والتجارية الجارفة، قامت السلطة في عام 1963بسن قوانين سميت حينها بـ(ثورة الشاه والشعب البيضاء) التي عرفت بالمواد الستة والذي كان من أهمها تقسيم الأراضي(الإصلاح الزراعي) وحرية المرأة. وكان لهذه القوانين الأثر الكبير في التغييرات التي تلتها في ايران والأسباب هي ان تقسيم الأراضي وان كان الإعلام الإيراني يحاول إعلانها خدمة للفلاحين ضمن ثورة بيضاء، لكن القصد منه كان تحرير الفلاح من الأرض وجذبه الى المدينة حيث الحاجة الملحة لتوفير اليد العاملة الرخيصة وهذا ما تم بالفعل حيث حصل الفلاحين على قطع صغيرة من الأرض وبقي القسم الأكبر منها بيد الإقطاعيين حيث لم تكون الأرض التي حصل عليها الفلاح ومع انعدام الإمكانات المادية التي تمكنه من الاستمرار في العمل عليها ولم تعد تكفي لرفع حاجاته المتزايدة ولم يتمكن البعض حتى من تسديد أقساط سعر الأرض التي عليه دفعها، خاصة وان الشيوخ احتفظوا بمستلزمات الزراعة والري مثل ماكينات الري والتراكتور وغيرها، فلم يبقى امام الفلاح إلا ان يترك القرية متوجها الى المدينة من اجل الحصول على عدة أيام عمل في الشهر وذلك في الخدمات الجانبية للمصانع وفي شركات البناء القائمة على قدم وساق في المدن. أما حرية المرأة فلم يكن الهدف منها يختلف عما كان لتحرير الفلاح حيث ان تحريرها يعني تحرير نصف المجتمع من القيود التي تمنع تحركه وعمله في الوقت التي كانت السلطات تستقدم العمال من الخارج. ان تحرير المرأة وفر للمصانع والشركات الخدمية بشكل عام اليد العاملة الأرخص من الرجل. والمعروف ان إحدى الأسباب الرئيسية التي تسببت لمعارضة بعض علماء الدين ومنهم "الخميني" هما المادتين المذكورتين حيث عارض الخميني قانون حرية المرأة وتقسيم الأراضي بشدة إذ حرق أنصاره من جماعة "نواب صفوي" ناقلة ركاب"باص" للفتيات الطالبات في جامعة طهران مما نتج عنه قتل وجرح العشرات منهن حرقا كما قتل حسن على منصور(الوزير والمسئول المباشر عن برنامج الإصلاح الزراعي ) بسبب تقسيم أراضي الإقطاعيين على الفلاحين حيث اعتبر بعض العلماء ومنهم الخميني مصادرة لأموال لممتلكات الناس. أما في الاحواز فكان اثر هذه التغييرات مضاعف حيث انه من جانب كانت العلاقات الاجتماعية السائدة في القرية ( كانت القرى تجمع 65% من سكان الاحواز حينها) قائمة على العلاقات الاقتصادية الإقطاعية ومن جانب ثان ان موقع الاحواز الجغرافي وسياسة السلطة لتوسيع الاستثمار في قطاع النفط وسياسة التفريس التي كانت تنتهجها بهدوء كانا وراء التطور الصناعي في إقليم الاحواز حيث الثروة النفطية وتطور صناعتها وتوسع المدن الساحلية على الخليج العربي بسبب توسع الموانئ فيها وكذلك صناعة الحديد والصلب في مدينة الاحواز وتواجد الشركات الزراعية على أراضي الفلاحين العرب المصادرة في شمالها وفي جوار مدن السوس والصالحية(انديمشك) وغيرها.
الواضح ان هذه المشاريع كانت بحاجة شديدة للعمالة المحلية غير المتخصصة، في الوقت الذي كانت الأرض المستعادة للفلاحين، لا تكفي لسد احتياجات عائلاتهم، فلم يبقى أمامهم سوى ترك الأرض والتوجه الى حواشي المدن. هذا ما كانت تريده السلطة من خطتها لتقسيم الأراضي وتحرير الفلاح من الأرض وتحرير المرأة من القيود التي كانت تحد من تحركها حيث ذلك يؤمن للمصانع والشركات الحفاظ على تدني الأجور بسبب وجود اليد العاملة المنتظرة في حواشي المدن.
وكان لهاتين التغييرين المتوازيين في الاحواز وهما التطور الصناعي والاقتصادي في المنطقة وتنفيذ المواد القانونية الستة وخاصة قانون الإصلاح الزراعي، كان لهما الأثر على التغييرات الاجتماعية التي حصلت في الاحواز وخاصة أثرها على تفكيك قوى الإقطاع وفصل الفلاحين اقتصاديا عن الشيوخ وملاكي الأراضي في كثير من المناطق والاقضية حيث لم يبقى من العلاقات العشائرية بين الشيخ والقبيلة عند اندلاع الثورة إلا العلاقات الثقافية المرتبطة بالسنن والتراث ومنها القضاء المحلي والقبلي"الفراضة" لبعض من المؤهلين من الشيوخ المعروفين بحنكتهم وإلمامهم بالعلاقات القبلية والعشائرية والحضور لحل القضايا العشائرية العالقة وخاصة ً الفصل ً وان كان حضورهم في كثير من الأحيان رمزيا من أجل إرضاء الطرف الآخر الذي يرى بحضورهم إكمال لعملية المصالحة.
أيضا كان للتطور في الخليج العربي وجذب الآلاف من ابناء الاحواز الى هناك وابتعادهم وعائلاتهم عن مشكلات الأرض والشيوخ وحصولهم على عمل مناسب هو الآخر كان له الأثر على تغيير الحياة في الكثير من أوجهها في الأحواز. ويمكن ايضا ان نذكر هنا التغييرات التي طرأت على حياة الكثير من عائلات الشيوخ أنفسهم وذلك بسبب التطور والتوسع في المدن والذي سمح لكثير منهم ببيع كميات واسعة من الأرض وحصولهم على مبالغ خيالية غيرت نمط الحياة عندهم وأصبح عدد منهم مستثمرين بدل الإقطاعيين القدامى حيث العقارات والممتلكات غير المنقولة والمحلات التجارية وإرسال الأبناء لاستكمال دراساتهم في أوروبا وأمريكا.
ومن الضروري الإشارة الى سياسة التفريس التي اقتضت توسيع التعليم في الأحواز العربية والذي عملت بجهد لإدخال ابناء الأقليات القومية المدارس الابتدائية من اجل تعلم اللغة الفارسية والابتعاد عن لغة الأم. لكن مع كل ما حملت هذه الخطة من أهداف شوفينية، فأنها ساعدت على إكمال الكثير من ابناء العائلات الأحوازية المتمكنة ماديا دراساتهم الثانوية والمتوسطة في المدن المجاورة..كما سمحت لدخول عدد غير قليل منهم الجامعات والحصول على شهادات عالية في فروع المختلفة.
ونظرا لما جاء في هذه المقدمة، فأصبح واضحا الى حد كبير، كيف كان المجتمع الأحوازي عند اندلاع ثورة الشعوب في ايران في عام 1979 جاهزا للانطلاق والمشاركة خلافا لما أراده بعض الشيوخ والإقطاعيين له من اجل الحفاظ على مكانتهم البوليسية في الحكم الشاهنشاهي والحفاظ على الأراضي التي احتفظ البعض بها بعد التقسيم في عام 1963 والتي كانت تتجاوز عند بعضهم العشرين ألف هكتار. وشارك الشعب الأحوازي بكل ثقله من أجل انتصار الثورة ومن اجل القضاء على الظلم الشاهنشاهي واستعادة الهوية العربية للأحواز المغتصبة في ظل ثورة شعبية جماهيرية عارمة.
لذا، وفي ظروف كهذه ونظرا" لشمولية الانتهاكات والتعديات للسلطة الشاهنشاهية والمجازر التي كانت ترتكبها أجهزة السلطة القمعية
ورجال الأمن وخاصة رجال المنظمة الجهنمية الدموية- السافاك- وحيث ان كافة شرائح وطبقات المجتمع وفي كافة النواحي في ايران كانت تحمل الكراهية والحقد للسلطة ولعمالها القتلة؛ فعندما انطلقت الشرارة الاولى للثورة في قم و بعدها بأربعين يوما في تبريز عمت المسيرات والتظاهرات وفي فترة قليلة كافة الأقاليم في ايران وجاءت بالرجال والنساء الى الشوارع واشتعلت المدن والقرى بلهيب الثورة.
وكان لشعبنا والذي عانى (ومازال يعاني) من السلطة الشاهنشاهية الإضطهادين- القومي والطبقي- كان له دورا" في الثورة حيث لعب شبابنا وهم مشاركين كافة الشعوب في ايران والفرس منهم، المسيرات والاحتجاجات دورا" مؤثرا" في حسم المعركة القائمة بين الشعوب المحرومة من جهة وبين الجيش ورجال الأمن الشاهنشاهي من جهة اخرى وذلك بحرمان قوات القمع الشاهنشاهية من الاستفادة من مصدرها الاقتصادي الوحيد وهو النفط في الاحواز. وتم توقف كافة العمليات في التصدير والتكرير وتوقف العمل تماما في مصافي عبادان التي كانت تغذي أجهزة الأمن والجيش بالمحروقات.. وكان للسلطة محاولات عدة لكسر مقاومة شعبنا ومنعه من الانضمام للثورة، تارة بزج عوامله من بعض الشيوخ للساحة وتارة بزج جنوده الى الشوارع لإيجاد الرعب والخوف بقصد منع نمو الحركة.. وعند ما لم يتمكن من القيام بعمل مؤثر في هذا الشأن بدأ بأعماله الإجرامية والانتقامية وسهل لبعض العناصر المشبوهة بحرق سينما "ركس" في مدينة عبادان وقام بمجزرته المعروفة في المحمرة ومهاجمة مراكز المقاومة الشعبية العربية في مدينة الأحواز وخاصة في حي النهضة(لشكر آباد ورفيش آباد) وبهداية بعض العناصر المتعاونة من ابناء الإقطاعيين. كما حاول العمل نفسه في الخفاجية وغيرها من المدن العربية ,ولم تفلح.
1- - النهوة، تعني منع ابناء العم لزواج بنات أعمامهم على غير ابناء العائلة وإجبارهن على الزواج من ابناء العم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق