شؤون إيرانية:
صحيح أن الانسحاب الأميركي من العراق مثّل حدثاً قائماً بنفسه، له حيثياته، وليس أقلها إقرار أميركي باستنفاد أوراق القوة، وله نتائجه، وأول إرهاصاتها الحراك الإيراني العسكري في الخليج. لكنه في النهاية لم يكن حدثاً معزولاً على المستوى الإقليمي، ولا كان ابن لحظته، بل نتيجة صراع استمر تسع سنوات، أدارته إيران، وخاضه العراقيون، المقاومون منهم والمشاركون في العملية السياسية. وفي ما يأتي رواية لمقاربة إيران لاحتلال العراق، تقاطعت حولها مصادر معنية في طهران وبغداد
الكل يتذكرون تلك الهجمات التي هزّت العالم في ١١ أيلول ٢٠٠١. وقتها، ما عاد من شغل شاغل للدول ذات السياسات غير المتوافقة مع السياسات الأميركية، بل حتى لبعض حلفاء واشنطن في العالم الإسلامي، سوى العمل الدؤوب لتبرئة النفس من شبهات التورط في ما جرى. أول الغيث كان أفغانستان. تلك الدولة التي لم تكن الولايات المتحدة تعرف شيئاً عنها، سوى ما حفظته الذاكرة من أيام السوفيات والمجاهدين الذين رعتهم، وبينهم حركة طالبان. لكن مع إطلالة الألفية الجديدة، كان لا بد من قبول يد المساعدة التي قدمتها إيران في مقابل نوع من الشراكة المضمرة في أفغانستان ما بعد طالبان. وهذا ما حصل.
عقدت اجتماعات متعددة الأطراف في مقر الأمم المتحدة في نيويورك شارك فيها رجال استخبارات إيرانيون قدموا في خلالها «بنك الأهداف» التي يجب على القوة الغازية أن تدمرها. وهكذا تخلصت إيران من السد الإسلامي الراديكالي الذي يسمى طالبان والذي كان يحد من تمدد نفوذها في آسيا الوسطى.
مع بدء الحديث عن غزو العراق، قدم الإيرانيون عرضاً مماثلاً للتعاون. فبغض النظر عن الحرب العراقية ـــــ الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، سعى في خلالها صدام حسين، ومن خلفه من دول الخليج والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة إلى إجهاض الثورة الخمينية، لطالما أدى النظام البعثي في العراق دور الحاجز المنيع أمام تمدد نفوذ إيران، باعتبارها دولة فارسية، كذلك فإنه مارس شتى أنواع القمع بحق الغالبية الشيعية في بلاد الرافدين، من وجهة نظر إيران الجمهورية الإسلامية.
رد إدارة الرئيس جورج بوش الابن على العرض الإيراني كان الرفض القاطع هذه المرة. حساباتها في العراق كانت مختلفة عن أفغانستان: أولاً، لديها ما يكفي من المعارضين العراقيين الذين يعيشون في الغرب، مع ما لديهم من معلومات ومعطيات تغنيهم عن الاستعانة بالمعلومات الإيرانية. لعل أبرز هؤلاء إياد علاوي، وأحمد الجلبي (الذي أظهرت السنوات أنه إيراني الهوى، وربما معلوماته للأميركيين كان مصدرها طهران). ثانياً، وخلافاً للوضع في أفغانستان، حيث كان تحالف الشمال المعارض القوة الأضعف في أفغانستان، فضلاً عن أنه يمثل أقلية من السكان قياساً بالغالبية الباشتونية، الحاضنة الطبيعية لطالبان، كان شيعة العراق وأكراده، الذين يمثلون الغالبية الساحقة من السكان، إما يشجعون هذا الغزو أو أنهم لا يمانعونه. ثالثاً، إن إيران كان يفترض، في ما لو نجح الرهان العراقي، أن تكون الهدف التالي بعد العراق.
وتنقل مصادر إيرانية وثيقة الصلة بهذا الملف عن المرشد علي خامنئي قوله، في اجتماع على مستوى القيادات، رداً على سؤال عن المصلحة في انتشار عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين على الحدود مع إيران: «كانوا بعيدين وكنا عاجزين عن الوصول إليهم، فأتوا إلينا وصاروا بين أيدينا». وأضاف، رداً على سؤال عن رؤيته للغزو وتداعياته: «إذا غزا الأميركيون العراق، فستكون بداية النهاية لأميركا».
بناءً على ذلك، اعتمدت الاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع عزم الولايات المتحدة على غزو العراق على عناصر خمسة:
١ ـــــ عدم الوقوف في وجه إسقاط صدام حسين بالحد الأدنى، بمعنى عدم مقاومة الغزو، وفي الوقت نفسه عدم المشاركة أو المساهمة فيه (إلى الحد الذي منع فيه أي عراقي مقيم في إيران من الانطلاق من الأراضي الإيرانية لتنفيذ هجمات على نظام صدام وقت الاجتياح).
٢ ـــــ جعل الوجود الأميركي في العراق غير مريح، بمعنى العمل على ضمان ألا يشعر المحتل للحظة بأنه في حالة استقرار، وفي الوقت نفسه عدم تكثيف العمليات بما يدفع الأميركي إلى مغادرة العراق من دون تثبيت الأقدام فيه وضمان قيام نظام صديق يكون جزءاً من محور الممانعة الذي تقوده إيران.
٣ ـــــ ضمان أن يكون النظام المقبل بقيادة الغالبية الشيعية العراقية، التي طالما اضطهدت أيام صدام، من دون تهميش المكونات الأخرى للنسيج الديموغرافي العراقي.
٤ ـــــ اعتبار القوات الأميركية المنتشرة في العراق رهائن تضمن عدم تجرؤ الأميركيين على القيام بأي خطوة عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية، لا عنصر تهديد كما حسبوا الأمر في واشنطن أو كما اعتقد كثير من صناع القرار والمحللين الاستراتيجيين في العالم.
5 ـــــ ضمان فكفكة البنية التحتية للدولة القديمة، وخاصة الجيش وحزب البعث، لضمان عدم تجمعها مجدداً والانقلاب على الوضع الجديد، كما فعل الجيش الإيراني مع محمد مصدق في خمسينيات القرن الماضي عندما نجح جنرالاته في إسقاط هذا الأخير وإعادة الشاه إلى الحكم.
وهكذا كان. دخل الأميركيون العراق في خلال أيام معدودة، وفكفكوا بنية الدولة خلال أسابيع، ودخلت البلاد في حال من «الفوضى الخلاقة». في المقابل، كان الإيرانيون يعدون العدة للدخول في غمار مسارين متوازيين: الأول، تكوين خلايا مقاومة شيعية (بدأت عملياتها في ٢٠٠٤) مهمتها تحويل حياة الأميركيين في العراق إلى جحيم، لا إخراجهم منه، فضلاً عن تقديم كل أنواع الدعم للخلايا السنية المقاومة. أما المسار الثاني، الذي يمشي بالتوازي مع الأول، فكان إعداد الأطراف الشيعية للدخول في غمار العملية السياسية التي كان المحتل الأميركي على شفا إطلاقها.
أدرك الإيرانيون باكراً، في ظل عدم امتلاكهم بعد لكافة خيوط اللعبة داخل العراق، أن خيار المقاومة من دون المشاركة في العملية السياسية كان سيعطي الأميركيين فرصة تركيب نظام جديد على هواهم، ما يجعل المهمة مزدوجة: مقاومة المحتل الأميركي لإخراجه، ومن ثم فتح معركة ثانية مع النظام للسيطرة عليه أو تقويضه.
بناءً على ذلك، عمل الإيرانيون على توزيع الأدوار داخل الصف الشيعي العراقي. وتوزيع الأدوار هنا لم يكن يعني إصدار أوامر وتوزيع تكليفات بقدر ما كان استماعاً معمقاً إلى كل الأفرقاء، وقد كانت مواقفهم متباينة. من أراد المقاومة، شجعه الإيرانيون على ذلك وأعطوه كل أنواع الدعم. ومن أراد المشاركة في العملية السياسية، شجعوه على ذلك، وأيضاً قدموا له كل أنواع الدعم.
ولا بد من التأكيد هنا أن شيعة العراق ليسوا مطواعين، والتعامل معهم صعب جداً، إلى حد ذهب القيادي الإيراني المكلف ملف العراق ذات مرة إلى السيد خامنئي يطلب منه إعفاءه من المسؤولية قائلاً له: «لقد ملأوا قلبي قيحاً وشحنوا قلبي غيظاً»، في استعادة لعبارة شهيرة للإمام علي بن أبي طالب. والتعامل الأكثر صعوبة مع قادة العراق، ولسوء حظ الإيرانيين، كان مع المنحدرين من مدينة النجف التي يرى أهلها أن الدنيا بدأت عندهم وتنتهي عندهم: قبر النبي آدم موجود في مدينتهم التي ستكون عاصمة دولة الإمام المهدي المنتظر، بحسب المعتقدات الشيعية.
سعت إيران، في السنوات الأولى التي تلت الغزو إلى تثبيت أقدامها في العراق. انفتحت على الجميع. جزء من القيادات الشيعية كان في ضيافتها سنوات طوالاً، وجزء آخر أتى من سوريا وبلاد الاغتراب. والأكراد علاقتها بهم قديمة، وخاصة جلال الطالباني، ولطالما ساعدتهم في مفترقات حساسة وهم يدركون أنهم لا يستطيعون معاداتها. فضلاً عن أن الأكراد لا يزالون يحملون فضل السيد محسن الحكيم الذي أفتى، في أوج حملة النظام على الأكراد، أن قتلهم لا يجوز شرعاً. حتى السنّة، وبينهم التنظيمات المسلحة التي رفعت السلاح في وجه الأميركيين، لم توفرهم وقدمت لهم ولساستهم الدعم كلما طلبوه.
في هذه المرحلة، كانت إيران مستفيدة من بقاء الأميركيين في العراق. لم تكن تمتلك بعد المفاتيح الضرورية ولا أدوات السيطرة. كانت بحاجة إلى المحتل الأميركي ليفرض الأمن، فيما كانت هي تبني التنظيمات، السياسية للمشاركة في العملية السياسية، والعسكرية للمشاركة في أعمال المقاومة.
في هذه المرحلة، تورط السيد مقتدى الصدر في معركته مع قوات الاحتلال التي حوصر في نهايتها في مقام الإمام علي في النجف. ويقول البعض إنه «لولا وجود ضابط إيراني رفيع المستوى كان برفقته داخل المقام لما نجا الصدر من هذه المحنة».
مع انتخابات عام ٢٠٠٥، بدأ الحديث عن مرحلة «شراكة أميركية إيرانية» في العراق. أو بنحو أدق مرحلة «تقاسم نفوذ بحكم الأمر الواقع»، لا وفق اتفاق مباشر أكان أم غير مباشر. لعل التعبير الأبرز عمّا حصل، الطريقة التي ولدت فيها الحكومة الأولى لنوري المالكي، والطريقة التي وصفت فيها سياسته في خلالها. وقتها كانت الحكومة الانتقالية لإبراهيم الجعفري قد انتهت مهمتها، ودخلت الكتلة الشيعية في صراع في ما بينها بين مطالب بالتجديد للجعفري، الذي كان يدعمه الإيرانيون، وبين مناصر لعادل عبد المهدي المدعوم أميركياً، فكانت التسوية بأن جيء بالمالكي الذي وصف عهده، في ولايته الأولى، حيث اعتمد سياسة «العراق أولاً»، بأنه «يضع رجلاً في طهران وأخرى في واشنطن»، وأنه بنى سمعته على رفضه تدخل أي من الطرفين في الشؤون الداخلية العراقية.
في هذه المرحلة، شهد العراق حرب التطهير المذهبي في أعقاب تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وبدأ المحتل الأميركي يدرك أنه أخطأ في الرهان على الحصان الشيعي وتهميش الحليف السنّي التقليدي، في ظل سجال أميركي، قاده السفير الجديد لدى بغداد زلماي خليل زادة، وصل إلى نتيجة بأن التحالف مع شيعة العراق إنما هو تكتيكي وليس استراتيجياً، وأنهم سيرفعون السلاح في وجه الولايات المتحدة عند أول صدام أميركي إيراني. بدأ المشهد يتضح لدى قادة الاحتلال، الذين أخذوا يلمسون الخطأ الاستراتيجي الذي بدا في إسقاط صدام، الضلع الثاني في سياسة الاحتواء المزدوج مع إيران، واستكمل بحل الجيش. رؤية زادة كانت أن الوضع إذا استمر على هذا المنوال فإن العراق سيكون رهينة بيد إيران. من هنا، باشر بالتقرب من السنّة الذين قاطعوا انتخابات 2005، ورعى إنشاء التنظيمات المسلحة شبه العسكرية التي عُرفت باسم «الصحوات»، والتي نجحت في قصم ظهر تنظيم «القاعدة»، في مقابل حصة من كعكة الحكم العراقية.
كل ذلك لم يحل دون إخفاء الواقع، حيث بدا جلياً أن الدفة في العراق كانت تميل لمصلحة الإيرانيين. نحو سبع سنوات من الاحتلال، سيطر في معظمها حلفاء إيران على مجريات العملية السياسية، وإن في إطار ما سمي «التعاون مع سلطة الاحتلال الأميركية». تُرجم هذا في انتخابات 2010، حيث تبيّن أن السنّة حشدوا طاقاتهم كلها في محاولة لإعادة التوازن إلى المعادلة السياسية الداخلية، بدعم علني من واشنطن والرياض وأنقرة. عبّرت القائمة «العراقية» عن هذا التحالف الذي استهدف أساساً وضع حد للنفوذ الإيراني في العراق. أشهر من الأزمة السياسية لم تنته فصولها بعد، بدأت بتحديد الكتلة البرلمانية الأكبر والمخولة تسمية رئيس الحكومة وتأليف الحكومة. نتيجتها كانت معبّرة عن نفسها: التحالف الوطني نجح في التجديد للمالكي، الذي ظهر علناً في الأسابيع الأخيرة ميله الواضح إلى المعسكر الإيراني، في مقابل قائمة «عراقية» قُطعت أوصالها ورضيت بما ارتضته لها طهران وحلفاؤها العراقيون، إن من ناحية توزيع المناصب، أو من ناحية الصلاحيات وجدول الأعمال.
مرت الأسابيع والشهور، واقترب الموعد المحدد بحسب الاتفاقية الأمنية للانسحاب الأميركي الكامل. استحقاق حرص الأميركيون على بذل الجهود لتجاوزه مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، فيما جهد الإيرانيون للعمل على عبوره بسلاسة متناهية، وعلى ضمان الاستقرار وضبط الصراعات كي لا يُعطى المحتل الأميركي فرصة استغلال أي خطأ للتمديد. وكلما اقتربت نهاية عام 2011، كان يتضح أن المحتل الأميركي أعجز عن مقاومة المصير المحتم، إلى أن بلغ به المطاف إلى أن يجاهد لحفظ ماء وجهه. لم يتمكن من حجب ملامحه الحزينة، وإن أخرج قواته بلا صورة واحدة، خلافاً لضوضاء دخوله العراق. كان الانسحاب ثمرة انكسار للمشروع الأميركي على المستوى الإقليمي، أدت فيه مجموعة من أزمات المنطقة دوراً أساسياً. لكن حصوله بالنحو الذي تم عليه، أوجد له كينونة مستقلة، من حيث الحيثيات والخلاصات التي بني عليها واقع جديد، بدأت ارهاصاته الأولى تتجلى في مضيق هرمز وما بعد بعد هرمز.
عقدت اجتماعات متعددة الأطراف في مقر الأمم المتحدة في نيويورك شارك فيها رجال استخبارات إيرانيون قدموا في خلالها «بنك الأهداف» التي يجب على القوة الغازية أن تدمرها. وهكذا تخلصت إيران من السد الإسلامي الراديكالي الذي يسمى طالبان والذي كان يحد من تمدد نفوذها في آسيا الوسطى.
مع بدء الحديث عن غزو العراق، قدم الإيرانيون عرضاً مماثلاً للتعاون. فبغض النظر عن الحرب العراقية ـــــ الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، سعى في خلالها صدام حسين، ومن خلفه من دول الخليج والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة إلى إجهاض الثورة الخمينية، لطالما أدى النظام البعثي في العراق دور الحاجز المنيع أمام تمدد نفوذ إيران، باعتبارها دولة فارسية، كذلك فإنه مارس شتى أنواع القمع بحق الغالبية الشيعية في بلاد الرافدين، من وجهة نظر إيران الجمهورية الإسلامية.
رد إدارة الرئيس جورج بوش الابن على العرض الإيراني كان الرفض القاطع هذه المرة. حساباتها في العراق كانت مختلفة عن أفغانستان: أولاً، لديها ما يكفي من المعارضين العراقيين الذين يعيشون في الغرب، مع ما لديهم من معلومات ومعطيات تغنيهم عن الاستعانة بالمعلومات الإيرانية. لعل أبرز هؤلاء إياد علاوي، وأحمد الجلبي (الذي أظهرت السنوات أنه إيراني الهوى، وربما معلوماته للأميركيين كان مصدرها طهران). ثانياً، وخلافاً للوضع في أفغانستان، حيث كان تحالف الشمال المعارض القوة الأضعف في أفغانستان، فضلاً عن أنه يمثل أقلية من السكان قياساً بالغالبية الباشتونية، الحاضنة الطبيعية لطالبان، كان شيعة العراق وأكراده، الذين يمثلون الغالبية الساحقة من السكان، إما يشجعون هذا الغزو أو أنهم لا يمانعونه. ثالثاً، إن إيران كان يفترض، في ما لو نجح الرهان العراقي، أن تكون الهدف التالي بعد العراق.
الرؤية الإيرانية للعراق
وتنقل مصادر إيرانية وثيقة الصلة بهذا الملف عن المرشد علي خامنئي قوله، في اجتماع على مستوى القيادات، رداً على سؤال عن المصلحة في انتشار عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين على الحدود مع إيران: «كانوا بعيدين وكنا عاجزين عن الوصول إليهم، فأتوا إلينا وصاروا بين أيدينا». وأضاف، رداً على سؤال عن رؤيته للغزو وتداعياته: «إذا غزا الأميركيون العراق، فستكون بداية النهاية لأميركا».
بناءً على ذلك، اعتمدت الاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع عزم الولايات المتحدة على غزو العراق على عناصر خمسة:
١ ـــــ عدم الوقوف في وجه إسقاط صدام حسين بالحد الأدنى، بمعنى عدم مقاومة الغزو، وفي الوقت نفسه عدم المشاركة أو المساهمة فيه (إلى الحد الذي منع فيه أي عراقي مقيم في إيران من الانطلاق من الأراضي الإيرانية لتنفيذ هجمات على نظام صدام وقت الاجتياح).
٢ ـــــ جعل الوجود الأميركي في العراق غير مريح، بمعنى العمل على ضمان ألا يشعر المحتل للحظة بأنه في حالة استقرار، وفي الوقت نفسه عدم تكثيف العمليات بما يدفع الأميركي إلى مغادرة العراق من دون تثبيت الأقدام فيه وضمان قيام نظام صديق يكون جزءاً من محور الممانعة الذي تقوده إيران.
٣ ـــــ ضمان أن يكون النظام المقبل بقيادة الغالبية الشيعية العراقية، التي طالما اضطهدت أيام صدام، من دون تهميش المكونات الأخرى للنسيج الديموغرافي العراقي.
٤ ـــــ اعتبار القوات الأميركية المنتشرة في العراق رهائن تضمن عدم تجرؤ الأميركيين على القيام بأي خطوة عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية، لا عنصر تهديد كما حسبوا الأمر في واشنطن أو كما اعتقد كثير من صناع القرار والمحللين الاستراتيجيين في العالم.
5 ـــــ ضمان فكفكة البنية التحتية للدولة القديمة، وخاصة الجيش وحزب البعث، لضمان عدم تجمعها مجدداً والانقلاب على الوضع الجديد، كما فعل الجيش الإيراني مع محمد مصدق في خمسينيات القرن الماضي عندما نجح جنرالاته في إسقاط هذا الأخير وإعادة الشاه إلى الحكم.
وهكذا كان. دخل الأميركيون العراق في خلال أيام معدودة، وفكفكوا بنية الدولة خلال أسابيع، ودخلت البلاد في حال من «الفوضى الخلاقة». في المقابل، كان الإيرانيون يعدون العدة للدخول في غمار مسارين متوازيين: الأول، تكوين خلايا مقاومة شيعية (بدأت عملياتها في ٢٠٠٤) مهمتها تحويل حياة الأميركيين في العراق إلى جحيم، لا إخراجهم منه، فضلاً عن تقديم كل أنواع الدعم للخلايا السنية المقاومة. أما المسار الثاني، الذي يمشي بالتوازي مع الأول، فكان إعداد الأطراف الشيعية للدخول في غمار العملية السياسية التي كان المحتل الأميركي على شفا إطلاقها.
أدرك الإيرانيون باكراً، في ظل عدم امتلاكهم بعد لكافة خيوط اللعبة داخل العراق، أن خيار المقاومة من دون المشاركة في العملية السياسية كان سيعطي الأميركيين فرصة تركيب نظام جديد على هواهم، ما يجعل المهمة مزدوجة: مقاومة المحتل الأميركي لإخراجه، ومن ثم فتح معركة ثانية مع النظام للسيطرة عليه أو تقويضه.
بناءً على ذلك، عمل الإيرانيون على توزيع الأدوار داخل الصف الشيعي العراقي. وتوزيع الأدوار هنا لم يكن يعني إصدار أوامر وتوزيع تكليفات بقدر ما كان استماعاً معمقاً إلى كل الأفرقاء، وقد كانت مواقفهم متباينة. من أراد المقاومة، شجعه الإيرانيون على ذلك وأعطوه كل أنواع الدعم. ومن أراد المشاركة في العملية السياسية، شجعوه على ذلك، وأيضاً قدموا له كل أنواع الدعم.
ولا بد من التأكيد هنا أن شيعة العراق ليسوا مطواعين، والتعامل معهم صعب جداً، إلى حد ذهب القيادي الإيراني المكلف ملف العراق ذات مرة إلى السيد خامنئي يطلب منه إعفاءه من المسؤولية قائلاً له: «لقد ملأوا قلبي قيحاً وشحنوا قلبي غيظاً»، في استعادة لعبارة شهيرة للإمام علي بن أبي طالب. والتعامل الأكثر صعوبة مع قادة العراق، ولسوء حظ الإيرانيين، كان مع المنحدرين من مدينة النجف التي يرى أهلها أن الدنيا بدأت عندهم وتنتهي عندهم: قبر النبي آدم موجود في مدينتهم التي ستكون عاصمة دولة الإمام المهدي المنتظر، بحسب المعتقدات الشيعية.
تثبيت الأقدام
في هذه المرحلة، كانت إيران مستفيدة من بقاء الأميركيين في العراق. لم تكن تمتلك بعد المفاتيح الضرورية ولا أدوات السيطرة. كانت بحاجة إلى المحتل الأميركي ليفرض الأمن، فيما كانت هي تبني التنظيمات، السياسية للمشاركة في العملية السياسية، والعسكرية للمشاركة في أعمال المقاومة.
في هذه المرحلة، تورط السيد مقتدى الصدر في معركته مع قوات الاحتلال التي حوصر في نهايتها في مقام الإمام علي في النجف. ويقول البعض إنه «لولا وجود ضابط إيراني رفيع المستوى كان برفقته داخل المقام لما نجا الصدر من هذه المحنة».
تقاسم النفوذ
مع انتخابات عام ٢٠٠٥، بدأ الحديث عن مرحلة «شراكة أميركية إيرانية» في العراق. أو بنحو أدق مرحلة «تقاسم نفوذ بحكم الأمر الواقع»، لا وفق اتفاق مباشر أكان أم غير مباشر. لعل التعبير الأبرز عمّا حصل، الطريقة التي ولدت فيها الحكومة الأولى لنوري المالكي، والطريقة التي وصفت فيها سياسته في خلالها. وقتها كانت الحكومة الانتقالية لإبراهيم الجعفري قد انتهت مهمتها، ودخلت الكتلة الشيعية في صراع في ما بينها بين مطالب بالتجديد للجعفري، الذي كان يدعمه الإيرانيون، وبين مناصر لعادل عبد المهدي المدعوم أميركياً، فكانت التسوية بأن جيء بالمالكي الذي وصف عهده، في ولايته الأولى، حيث اعتمد سياسة «العراق أولاً»، بأنه «يضع رجلاً في طهران وأخرى في واشنطن»، وأنه بنى سمعته على رفضه تدخل أي من الطرفين في الشؤون الداخلية العراقية.
في هذه المرحلة، شهد العراق حرب التطهير المذهبي في أعقاب تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وبدأ المحتل الأميركي يدرك أنه أخطأ في الرهان على الحصان الشيعي وتهميش الحليف السنّي التقليدي، في ظل سجال أميركي، قاده السفير الجديد لدى بغداد زلماي خليل زادة، وصل إلى نتيجة بأن التحالف مع شيعة العراق إنما هو تكتيكي وليس استراتيجياً، وأنهم سيرفعون السلاح في وجه الولايات المتحدة عند أول صدام أميركي إيراني. بدأ المشهد يتضح لدى قادة الاحتلال، الذين أخذوا يلمسون الخطأ الاستراتيجي الذي بدا في إسقاط صدام، الضلع الثاني في سياسة الاحتواء المزدوج مع إيران، واستكمل بحل الجيش. رؤية زادة كانت أن الوضع إذا استمر على هذا المنوال فإن العراق سيكون رهينة بيد إيران. من هنا، باشر بالتقرب من السنّة الذين قاطعوا انتخابات 2005، ورعى إنشاء التنظيمات المسلحة شبه العسكرية التي عُرفت باسم «الصحوات»، والتي نجحت في قصم ظهر تنظيم «القاعدة»، في مقابل حصة من كعكة الحكم العراقية.
اليد الطولى!
كل ذلك لم يحل دون إخفاء الواقع، حيث بدا جلياً أن الدفة في العراق كانت تميل لمصلحة الإيرانيين. نحو سبع سنوات من الاحتلال، سيطر في معظمها حلفاء إيران على مجريات العملية السياسية، وإن في إطار ما سمي «التعاون مع سلطة الاحتلال الأميركية». تُرجم هذا في انتخابات 2010، حيث تبيّن أن السنّة حشدوا طاقاتهم كلها في محاولة لإعادة التوازن إلى المعادلة السياسية الداخلية، بدعم علني من واشنطن والرياض وأنقرة. عبّرت القائمة «العراقية» عن هذا التحالف الذي استهدف أساساً وضع حد للنفوذ الإيراني في العراق. أشهر من الأزمة السياسية لم تنته فصولها بعد، بدأت بتحديد الكتلة البرلمانية الأكبر والمخولة تسمية رئيس الحكومة وتأليف الحكومة. نتيجتها كانت معبّرة عن نفسها: التحالف الوطني نجح في التجديد للمالكي، الذي ظهر علناً في الأسابيع الأخيرة ميله الواضح إلى المعسكر الإيراني، في مقابل قائمة «عراقية» قُطعت أوصالها ورضيت بما ارتضته لها طهران وحلفاؤها العراقيون، إن من ناحية توزيع المناصب، أو من ناحية الصلاحيات وجدول الأعمال.
ما بعد الانسحاب
مرت الأسابيع والشهور، واقترب الموعد المحدد بحسب الاتفاقية الأمنية للانسحاب الأميركي الكامل. استحقاق حرص الأميركيون على بذل الجهود لتجاوزه مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، فيما جهد الإيرانيون للعمل على عبوره بسلاسة متناهية، وعلى ضمان الاستقرار وضبط الصراعات كي لا يُعطى المحتل الأميركي فرصة استغلال أي خطأ للتمديد. وكلما اقتربت نهاية عام 2011، كان يتضح أن المحتل الأميركي أعجز عن مقاومة المصير المحتم، إلى أن بلغ به المطاف إلى أن يجاهد لحفظ ماء وجهه. لم يتمكن من حجب ملامحه الحزينة، وإن أخرج قواته بلا صورة واحدة، خلافاً لضوضاء دخوله العراق. كان الانسحاب ثمرة انكسار للمشروع الأميركي على المستوى الإقليمي، أدت فيه مجموعة من أزمات المنطقة دوراً أساسياً. لكن حصوله بالنحو الذي تم عليه، أوجد له كينونة مستقلة، من حيث الحيثيات والخلاصات التي بني عليها واقع جديد، بدأت ارهاصاته الأولى تتجلى في مضيق هرمز وما بعد بعد هرمز.
خامنئي والمقاومة
ربما كانت خطبة الإمام علي خامنئي في 11 نيسان 2003، أي بعد يومين على سقوط بغداد، خير معبّر عن مقاربة إيران لاحتلال العراق. تحدث عن 4 قضايا:
1ـــــ إسقاط صدام حسين. رأى أن «سرور الشعب الإيراني هو كسرور الشعب العراقي»، لكن «لا علاقة للسرور بزوال صدام، بمجيء المحتلين... الشعب العراقي كان حيادياً في هذه الحرب، وقد أعلنت الحكومة الإيرانية حيادها. ومعنى الحياد هو أن كلتا الجبهتين، جبهة صدام وجبهة الغزاة ظالمة».
2ـــــ المآسي التي تعرض لها الشعب العراقي. قال: «نحن ندينها بشدة... وندين المعتدي ونعدّه كاذباً إن هو ادعى الدفاع عن حقوق الإنسان».
3 ـــــ تعرض بلدٍ مستقل لعدوان وغزو عسكري. قال إن «الحلم الذي يحلم به الأميركان والإنكليز لن يتحقق؛ ذلك أنه في كل مكان تقف المقاومة بلغتها وأسلوبها بوجه الاعتداء ولغته وسلوكه، ولن يكون الشعب العراقي المعروف بغيرته وحميته مستثنى من هذه القاعدة».
4ـــــ إدارة العراق في المستقبل التي «ينسجون الأدوار والمخططات والأوهام في أدمغتهم من أجلها».
المصدر: جريدة الأخبار
1ـــــ إسقاط صدام حسين. رأى أن «سرور الشعب الإيراني هو كسرور الشعب العراقي»، لكن «لا علاقة للسرور بزوال صدام، بمجيء المحتلين... الشعب العراقي كان حيادياً في هذه الحرب، وقد أعلنت الحكومة الإيرانية حيادها. ومعنى الحياد هو أن كلتا الجبهتين، جبهة صدام وجبهة الغزاة ظالمة».
2ـــــ المآسي التي تعرض لها الشعب العراقي. قال: «نحن ندينها بشدة... وندين المعتدي ونعدّه كاذباً إن هو ادعى الدفاع عن حقوق الإنسان».
3 ـــــ تعرض بلدٍ مستقل لعدوان وغزو عسكري. قال إن «الحلم الذي يحلم به الأميركان والإنكليز لن يتحقق؛ ذلك أنه في كل مكان تقف المقاومة بلغتها وأسلوبها بوجه الاعتداء ولغته وسلوكه، ولن يكون الشعب العراقي المعروف بغيرته وحميته مستثنى من هذه القاعدة».
4ـــــ إدارة العراق في المستقبل التي «ينسجون الأدوار والمخططات والأوهام في أدمغتهم من أجلها».
المصدر: جريدة الأخبار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق