شؤون إيرانية:
اشتهر العصر البهلوي (1925-1979) خاصة فترة حكم مؤسس السلسلة البهلوية، رضا شاه بهلوي (حكم إلى عام 1941) بالنزعة القومية الشديدة وتمجيد الماضي الذي تعرفت عليه غالباً من خلال كتب المستشرقين ودراساتهم. فحاول النظام الجديد بناء جسر يربط الحاضر بعصر ما قبل الإسلام مع تهميش مابين هاتين الفترتين واعتباره مثالا للتراجع الفكري والثقافي والحضاري ولوم العرب والمسلمين بوصفهم سبب ذلك التراجع وبالتالي رافق ذلك نزعة عداء محمومة ضد العرب والحضارة العربية شقت طريقها سريعا نحو الأدب بشقيه الشعري والنثري وكذلك كتب التاريخ كما توغلت حتى وصلت إلى المناهج الدراسية. وعلى جانب محاكاة الماضي، بدأ رضا شاه بتاجه الملكي الذي صممه على طراز يحاكي التاج الساساني ثم انتقل الأمر إلى اللغة فأمر بتأسيس مجمع لغوي مهمته الأساسية تنقية اللغة الفارسية من الكلمات والمصطلحات الأجنبية عامة والعربية على وجه الخصوص إلى درجة أن البعض من مستشاريه أقترح التخلص من كافة الكلمات العربية واستبدالها بكلمات جديدة تكون فارسية الأصل أو من اللغات الأوروبية كالفرنسية والانجليزية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تم تغيير أسماء بعض المدن الإيرانية كعربستان (أصبحت خوزستان) وكذلك التقويم المستخدم ليكون هجرياً شمسياً (بدلا من الهجري القمري) إلى جانب التقويم الشاهشاهي الذي أرخ لبدايته ليكون قبل 2500 عاماً. كما أقام النظام البهلوي احتفالية كبيرة في ذكرى مرور ألف عام على رحيل الشاعر الإيراني الشهير أبو القاسم الفردوسي(920-1020)، صاحب ملحمة الشاهنامة. وتبنت الحكومة الإيرانية هذه الاحتفالية والتحضير لها و أرسلت الدعوة إلى عدد كبير من المهتمين بالثقافة والأدب الفارسي من الشرق والغرب، خاصة كبار المستشرقين وتم ترميم ضريح الفردوسي في مدينة طوس. ولعل السبب في الأهتمام بهذا الشاعر دون سواه من عمالقة الأدب الفارسي كحافظ وسعدي الشيرازيين وغيرهما، لم يكن لتميزه شعريا أو أنه أتى بسبك شعري جديد ولكنه يكمن في أن الكثير من القوميين الإيرانيين في ذلك العصر اعتبروا الفردوسي رمزاً وطنياً يعود إليه الفضل في حفظ اللغة الفارسية والتاريخ الإيراني القديم بشقيه الأسطوري والحقيقي من خلال إعادة كتابته في منظومته الشعرية الشاهنامة التي نظمها في قرابة 60 ألف بيت من الشعر.
وعلى الرغم من أن قيادات إيران ما بعد ثورة 1979 التي أوصلت الملالي إلى سدة الحكم قد حاولت جاهدة التخلص من كل ما كان يعتبر رمزا للنظام الشاهنشاهي البهلوي والابتعاد قد المستطاع عن النزعة القومية التي عرف بها إسلافهم، ليس ذلك وحسب بل جعلت تلك النزعة القومية إحدى النقاط الرئيسية في نقد النظام الجديد للنظام البهلوي واستبدالها بالهوية الإسلامية الشيعية، إلا أن هناك مواقف عدة تظهر جلياً أن تلك النزعة لازلت تشهد رواجاً بين الساسة الحاليين ولم يتمكنوا من التخلص منها مهما حاولوا إخفاءها.
ولعلنا نركز هنا على قادة إيران ورموزها السياسيين خلال فترة تولي احمدي نجاد لمنصب رئيس الجمهورية. يأتي على رأس القائمة اسفنديار مشايي، صهر احمدي نجاد ومدير مكتبه. فقد سبق وأن اظهر نزعة عرقية مبنية على الأفكار التي ذكرت أعلاه وقد أيده نجاد في ذلك عندما قالا قبل أكثر من عام أن الانتماء في هذا البلد يجب أن يكون للإيرانية Iranianness أولا ومن ثم للإسلام ثانياً. وقد وجه لمشايي الكثير من الانتقادات من التيار المحافظ إلا أن أحمدي نجاد دافع عنه وفي أكثر من مناسبة بل وتبنى نفس الفكر أيضاً. ولعل آخرها ما تحدث عنه الرئيس أحمدي نجاد حول هذه النقطة كان الأسبوع المنصرم وفي احتفالية عيد النوروز التي اقيمت في طاجكستان وبحضور رؤساء افغانستان وباكستان بالإضافة إلى رئيس البلد المضيف.
ففي حديثه في هذا الأجتماع، وصف الرئيس احمدي نجاد شاهنامة الفردوسي بکتاب التوحيد وقال:"بُعث کافة الأنبياء لإنقاذ الإنسان من الضلالة وإيضاح الطريق الصحيح برسالة التوحيد والإنسانية، والعدالة والمحبة"، مستدركا أن هذه القيم والدلائل لم تكن كافية لتحقق السعادة لذا كان من الضروري أن يكون هناك أمة تفهم جيدا هذه القيم والرسائل وإظهارها للعالم.
ثم هاجم نجاد الخلافتين الأموية والعباسية بقوله "لاحظت الأمة الإيرانية بعد دخولها في دين الإسلام أن الحكومة والقيادة السياسية تم اختطافها من قبل الأمويين ومن ثم العباسيين ولم تكن هاتين السلطتين مثالا للهدي النبوي والطريق الذي رسمه نبي الإسلام للأمة الإسلامية، فقد قاموا بإهانة الأمة الإيرانية وتحقيرها وهبّطوا من عزائم رجالها، وفي هذه الظروف ظهر نجم الفردوسي وأعاد إحياء الهوية التوحيدية والسعي إلى الحرية والعدالة الإنسانية في الشعب الإيراني..." على حد زعمه.
واستطرد قائلا: "لقد أنقذ الفردوسي منهج نبي الإسلام والنبي الأعظم ومدرسته واستخلص عبء هذه الرسالة العظيمة من قبضة أناس لم يكونوا أهل لحملها، ووضعها على عاتق الأمة الإيرانية وكانت هذه الأمة خير من حمل الرسالة وقدر المسئولية". واليوم، والحديث لازال لنجاد، "لو لم تكن الأمة الإيرانية حاضرة فإنه لن نجد أثرا للحرية والعدالة الإنسانية في هذا العالم وأن الأمة الإيرانية هي الأمة الوحيدة التي ارتكزت على تاريخها وحضارتها وتراثها، هذا من جانب، و على مدرسة الرسول والأئمة المؤمنين من بعده، من جانب آخر، ولا يوجد من ينافسها في ذلك".
يتضح مما طرح أعلاه أن أحمدي نجاد تبنى نفس الفكرة التي اشتهر بها النظام البهلوي المتمثلة في القومية أو النظرة المعادية للعرب. ففي العصر البهلوي كانت السمة الأبرز لهذا التوجه هو القومية الشوفينية الصرفة التي استحوذت على النتاج الثقافي والأدبي خلال تلك الفترة، أما خلال فترة الجمهورية الإسلامية وفترة أحمدي نجاد الرئاسية تحديدا، فإن هذه النزعة القومية اكتست بلباس الدين والمذهب الشيعي، فتم ترويجها من خلال الارتكاز على الجانب الطائفي كمنفذ وحيد لإبرازها دون التعارض مع الصورة التي يحاول النظام الإيراني الحالي ترويجها لنفسه من خلال رفع شعار الدين و ادعى مناصرة القضايا الإسلامية.
جدير بالذكر أن شاهنامة الفردوسي ليست كما حاول أحمدي نجاد وصفها والترويج لها فقد تبنى الفردوسي الفكر الشعوبي وصور العرب بأبشع الصور فوصفهم بالبدو الحفاة، العراة أكلت الفئران والضباب ورعاة الإبل، لا يعرفون من الحضارة أو الثقافة شيئاً. بل ونقل على لسان رستم، قائد الجيش الفارسي في معركة القادسية كلام بذيء وصل إلى سب الدهر بقوله، "تفّ تفّ لك أيها الفلك الدوار؛ العرب الحفاة العراة آكلو الضباب يدوسون أرض إيران الجميلة" ومثل ذلك مالا يمكن حصره في هذا المقال. فكيف يصف احمدي نجاد الفردوسي وملحمته بأنها رمز للعدالة والمحبة وهي مليئة بالعنصرية الشعوبية وكيف اصبح الفردوسي من حمل على عاتقه مهمة حفظ الدين الإسلامي والرسالة المحمدية وقد طرده حاكم عصره، السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (971 - 1030) من بلاطه ورفض تكريمه لأسباب من أهمها ما احتوته الملحمة الشعرية من إجحاف في حق الدين الإسلامي وحملت لواءه العرب المسلمين.
وختاماً، فقد وجه رجل الدين الإيراني آية الله مكارم الشيرازي نقدا لاذعاً لاحمدي نجاد بسبب هذه التصريحات وقال صحيح أن الفردوسي قد أعاد إحياء اللغة الفارسية وحفظ التاريخ الإيراني القديم ولكنه لم يكن يوما مجددا دينياً أو حافظاً للدين الإسلامي مطلقاً كما أتهم نجاد بمحاولة النيل من المدرسة الإسلامية على حساب الإيرانية وبالتالي عزل إيران عن العالم الإسلامي بينما هناك بوادر قوية لمزيد من التقارب مع العالم الإسلامي خاصة في ظل ما اسماه بـ "الصحوة الإسلامية" في إشارة إلى ثورات الربيع العربي التي تزعم إيران بأنها امتدادا لثورتها في عام 1979م.
محمد
هناك تعليق واحد:
السلام عليكم
جزاكم الله خيرا على هذه المدونة النافعة
اريد ان اعرف مصدر هذه المقالة للتوثيق في بحثي
إرسال تعليق