شؤون إيرانية
بقلم: محمد السلمي
تعرضت الهوية الإيرانية لهزات كثيرة وكبيرة عبر العصور، إلا أن ما حدث في العصر الحديث يعد استثناء واضحا، فقد تعرضت إيران خلال القرن التاسع عشر الميلادي لهزيمتين كبيرتين على يد القوات الروسية، وذلك بين عامي 1804 و1828م. هاتان الهزيمتان جعلتا إيران تفكر وبشكل جدي في تسليح قواتها وتطويرها على الأسلوب الأوروبي والروسي، فابتعثت طلابها للدراسة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وفي الوقت ذاته استقدمت عددا كبيرا من المدربين والخبراء الغربيين ليقوموا على تدريب الجيش ورفع قدراته القتالية.
ما يهمنا هنا هو الجانب المدني الثقافي وليس العسكري، فقد خاض الطلاب الإيرانيون في الغرب تجارب جديدة لم يعهدوها في بلادهم، فلمسوا التقدم الحضاري وسيادة القانون والحريات الفردية… إلخ، ثم شرعوا بمقارنة ذلك بما يدور في إيران من ديكتاتورية وتقييد للحريات ورجعية على كافة الأصعدة.
سببت نتائج هذه المقارنات صدمة في تكوينهم الداخلي وأخذوا يطرحون الأسئلة حول سبب التراجع الذي تعيشه بلادهم مقارنة بالدول الغربية، إلا أنهم لم يقدموا أجوبة واضحة ولم يقترحوا حلولا سوى استقدام الحضارة الغربية وتوطينها في بلادهم (Westernization) لكي يلحقوا بركب التقدم والرقي الغربي، إلا أن الجيل الذي أتى بعد ذلك قد توصل، على حد زعمه، إلى تشخيص الخلل وأسبابه، وكذلك تقديم بعض المقترحات لعلاج المشاكل التي تعاني منها إيران حينها.
لم يحدث ذلك بكل تأكيد بين يوم وليلة، بل انكب بعض القوميين والعلمانيين الإيرانيين على قراءة كتب المفكرين والتنويريين الغربيين منذ الثورة الفرنسية، ثم ما تلاها من اكتشافات لغوية وعرقية، لغوية من حيث تقسيم لغات العالم إلى عدة عائلات language families ومن بين تلك التقسيمات اللغات السامية واللغات الهندوأوروبية، وتم تصنيف اللغة الفارسية ضمن القسم الأخير، بينما العربية من الأسرة السامية، أما من الناحية العرقية، وهي المرحلة التي تلت التقسيم اللغوي، فقد توصل بعض علماء ما عرف باسم عصر الرومانسية Romanticism إلى نتيجة مفصلية وهامة فيما يتعلق بعلاقات الشعوب ببعضها البعض، مفادها أنه بما أن لغات العالم تم تقسيمها بهذه الصورة، وبناء على التشابه بينها فعليه فإن المتحدثين بتلك اللغات لا بد أن يكونوا من عرق واحد (بالمناسبة، هذه النظرية قد انهارت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لا تزال منتشرة بين كثير من الكتاب الإيرانيين حتى يومنا هذا).
إذن وبناء على هذا التقسيم الجديد للعالم أصبح الإيرانيون يشتركون مع الأوروبيين والهنود في السلالة الآرية التي تم الترويج لها بأنها تتميز بعراقة النسب من بين كافة الأعراق البشرية Master race، وبالتالي فهم مختلفون تماما عن العرق العربي السامي الذي أثر على ثقافتهم وحضارتهم بعد الفتح الإسلامي. ومن هذا المنطلق ظهرت النتائج التي توصل إليها الإيرانيون بعد أن أخذوا تلك النظريات الغربية على أنها حقائق لا تقبل النقاش على الإطلاق، ونتيجة لذلك حدث الخلل في الهوية الإيرانية.
من هنا فقد أصبح «الآخر العربي» هو الركيزة الأساسية للشخصية الإيرانية لتقديم نفسها إلى طرف ثالث، ألا وهو «الآخر الغربي» الذي قلب الهوية الإيرانية رأسا على عقب بمجرد التواصل معه والتعرف عليه وعلى كتاباته عن إيران (وأعني هنا كتب المستشرقين عامة والمهتمين بالشأن الإيراني على وجه التحديد). هذا التواصل أوجد ما سماه الكاتب والمفكر الإيراني المعروف عبد الكريم سروش بـ«أزمة الهوية الإيرانية» Iranian Identity Crisis، جعلته يترنح بين ثلاثة أصناف من الهوية لا يعلم حقيقة إلى أي منها ينتمي وأي صنف منها يمثل ثقافته وتاريخه. هذه الأصناف الثلاثة هي: أولا، الهوية الدينية الإسلامية التي صورها بعض القوميين الإيرانيين، بشكل أو بآخر، بأنها هوية أجنبية وغريبة لا تمثل العنصر الإيراني، بل تجعله أقرب إلى العرب منه إلى ذاته الفارسية. ثانيا، الهوية الفارسية التي تتغنى بالماضي (ما قبل الإسلام) وتعتصر ألما على فقدانه، وهذه الهوية تمت بلورتها في مدارس الاستشراق، ولكنها حظيت بقبول كبير لدى الشخصية الإيرانية الحديثة. ثالثا وأخيرا، هوية تتقمص الثقافة الغربية وتتبناها بشكل كامل وتنسلخ تماما من كل شيء قديم ما عدا اللغة الفارسية. إلا أن المشكلة ليست في التنظير، بل في تطبيق هذه النظرية وتقمصها، فقد كان من الصعوبة بمكان اختيار أحد هذه الأصناف دون أن يحتوي على أي من مكونات الصنفين الآخرين.
كان الآخر العربي، ولا يزال، العنصر الأبرز والأكثر تأثيرا في الهوية الإيرانية الحديثة، خاصة لدى أولئك الذين فضلوا العنصرين الأخيرين. فرغم تفاخرهم، سواء بالماضي المفقود أو بالثقافة الغربية الجديدة، فإنهم أخذوا يتطرقون إلى العنصر الأول ووصفه بأبشع الأوصاف. رأوا في الآخر العربي السبب الرئيسي في تراجع بلادهم عن ركب الحضارة الحديثة، ليس ذلك فحسب، بل أساس انتشار العادات الذميمة بين أفراد المجتمع الإيراني، من كذب وخداع وتقية وعدم اهتمام بالعلم والتعلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر تخلى الإيراني عن صفاته الجميلة وعاداته السامية التي رسمت في كتب التاريخ كأجمل ما يميز الإيراني الأصيل.كما رأوا فيما سماه بعض المتطرفين القوميين بـ«دين العرب» ويعني الإسلام، عقبة حقيقية في طريق التقدم والرقي وحجر عثرة يحول دون الاستفادة من العلوم والمعارف الغربية الحديثة – على حد زعمهم.من الأسماء التي برزت في هذا الجانب يمكننا الإشارة إلى كتَّاب مثل فتح علي آخوندزاده، ميرزا آقا خان كرماني، إبراهيم بورداود، صادق هدايت، ذبيح الله بهروز، وبعض كتابات عبد الحسين زرين كوب وحسين كاظم زاده، وآخرين.
حظي هذا التوجه باهتمام بالغ خلال الدولة البهلوية (1925 – 1979)، بل أصبح أكبر ما يميز سياستها الثقافية والتعليمية، والدراسات حول هذه النقطة كثيرة جدا. ولكن هل اختفى هذا التوجه وتلاشت هذه الأزمة في هوية الشخصية الإيرانية؟ قد يعتقد البعض أن هذه الأزمة قد اختفت تماما خلال إيران ما بعد ثورة 1979م أو الجمهورية الإسلامية في إيران، إلا أن الواقع يقول غير ذلك. فبعيدا عما يصوره الإعلام الإيراني والهيئة التي نشاهدها في القنوات التلفزيونية، الفارسية منها والعربية، التي تحاول إبراز ثبات وتماسك في الهوية الإسلامية (ممثلة في المذهب الشيعي الاثني عشري)، نجد أن كثيرا من الشباب الإيراني يعاني من عدم اتزان عندما يتم طرح مسألة الهوية. نعلم جميعا أن إيران كان يطلق عليها اسم «بلاد فارس» حتى عام 1935م عندما قامت مندوبية إيران في برلين بإرسال مقترح نازي إلى وزارة الخارجية في طهران بتغيير اسم الدولة من «Persia» إلى «Iran»، لأن إيران هي الموطن الأصلي للعرق الآري، وتبنى ملك إيران آنذاك، رضا شاه بهلوي، هذا المقترح، وتم تغيير الاسم فعلا. مع ذلك فإن عددا كبيرا من الإيرانيين أصبح في الوقت الراهن يقدم نفسه بأنه من بلاد فارس Persia أو فارسي Persian بينما الواقع يقول: إن هذين الاسمين لم يعد لهما أي وجود، فقد تم الاستبدال بهما إيران وإيراني Iran وIranian. من هنا تظهر جليا إحدى علامات أزمة الهوية، خاصة بين أولئك الذين يغادرون إيران إلى الدول الغربية، سواء بهدف الهجرة، الدراسة أو التجارة.
سألت ذات مرة أحد الشباب الإيرانيين الذين التقيت بهم في إحدى الدول الأوروبية لماذا قدم نفسه بهذه الصورة: I am from Persia، أي: «أنا من بلاد فارس»، وكان حينها لا يعرف أنني متخصص في الشأن الإيراني، فقال إنه يشعر في الوقت الراهن بشيء من الخجل عندما يقول إنه إيراني، لأن هذا الاسم ارتبط في الوقت الراهن بكثير من النقاط السلبية على المستوى السياسي تحديدا، لذا فإنه يرى في تقديم نفسه كفارسي أو من بلاد فارس مخرجا لتفادي سيل من الأسئلة. إضافة إلى ذلك فإن الكثير يحاول أيضا إبراز شخصية تحررية متمردة على الثقافة التي ينتمي إليها لكي يعطي انطباعا مفاده أنه مختلف وبشكل جذري عن الصورة التي يعتقد أنها مرسومة لدى الغرب عن إيران والشخصية الإيرانية في السنوات القليلة الماضية (وإن كنت أختلف كثيرا مع الصور النمطية التي تصدر بحق الشعوب بشكل عام).
كذلك هناك من يحاول استخدام «فارس» أو «فارسي» ليقدم نفسه بأنه غير عربي، خاصة عندما يكون هناك خلط بين العراق وإيران (بسبب التشابه في التهجئة Iraq – Iran). في هذا الصدد فقد تم استحداث مواقع على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي باللغة الفارسية والإنجليزية تحت عنوان «أنا إيراني، لست عربيا» أو «إيران ليست دولة عربية» ونحو ذلك.
مثل هذا الخلل في الهوية الإيرانية قد يستمر لعقود مقبلة، لأن المنتج الثقافي والإعلامي في إيران قد عزز هذه الأزمة في الشخصية الإيرانية من خلال الأفلام والمسلسلات وأدب القصة القصيرة والرواية والشعر ونحو ذلك، وما لم يكن هناك مشروع جاد يعمل على حل هذه «الأزمة» التي تعيشها شريحة كبيرة من الشباب الإيراني في الداخل والخارج، فإن الأمر قد يقود إلى مزيد من الصعوبات لدى هؤلاء الشباب في فهم هويتهم وتجاوز مسألة عدم الاتزان في الهوية الذي يعيشه كثير منهم في الوقت الراهن.
المصدر: مجلة المجلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق