شؤون إيرانية:
بقلم: محمد السلمي
تحتفل إيران هذه الأيام بالذكرى الرابعة والثلاثين على انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية، إثر الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي الذي سقط في عام 1979، إلا أن الفعاليات الاحتفالية التي تعرضها القنوات التلفزيونية وتنقلها الإذاعات الحكومية في إيران، لا يمكنها بأي حال من الأحوال إخفاء الصراع السياسي الذي تعيشه الفصائل السياسية في إيران، والقلق الذي يسيطر على النخبة الحاكمة على رأسها المرشد الأعلى آية الله سيد علي خامنئي.
صدامات وصراعات
إن الصدام وتبادل الاتهامات بين أحمدي نجاد وعلي لاريجاني تحت قبة
البرلمان الإيراني مطلع الأسبوع الماضي، مقدمة لصراع سيظهر جليا خلال
الفترة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية. النقاش الحاد الذي حدث تحت قبة
البرلمان، ألقى بظلاله على جوانب أخرى أيضاً. فعلى سبيل المثال، تم كسر
البروتوكول المتعارف عليه في إيران، الذي يؤكد على أنه عندما يغادر رئيس
الجمهورية أو يعود من رحلة خارجية، فإن من الضروري حضور ممثل عن المرشد،
الأمر الذي لم يحدث عندما غادر أحمدي نجاد إلى مصر، وتكرر ذلك عند عودته من
القاهرة يوم الجمعة الماضي. مثال آخر على الصراعات القائمة، يظهر فيما حدث في مدينة قم عشية ذكرى انتصار الثورة، فعندما بدأ رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني بإلقاء خطبة في ضريح “فاطمة المعصومة” قام أنصار أحمدي نجاد بمقاطعة حديثه، بعد ثلاث دقائق من بدايته وقذفه بالأحذية، مما اضطره إلى الخروج من المكان قبل إنهاء حديثه، الأمر الذي أثار زوبعة كبيرة داخل الأوساط المحافظة ورجال الدين. كل هذا يصب في وعاء الصراعات القائمة بين الفصائل السياسية في البلاد.
عليه، فإنه من الواضح أن تيار أحمدي نجاد تجاهل تحذيرات خامنئي المتكررة، التي شددت على رفضه أي جدال يحدث علناً بين مسؤولي السلطات الثلاث خاصة خلال فترة الاستعداد للانتخابات الرئاسية، التي تجرى في يونيو (حزيران) المقبل، وأن من يقوم بذلك سَيُدانُ بتهمة الخيانة. أحمدي نجاد يريد السيطرة على السلطة التنفيذية في إيران، ولا يريد التنازل عنها بسهولة.
في هذا الصدد، أشار اسفنديار مشائي، المقرب من نجاد ومدير مكتبه سابقا، إلى أنهم غير مستعدين للتخلي عن هذه السلطة مهما كلف الأمر، وقد ردد مشائي عند عودته من القاهرة شعار “زنده باد بهار” أي “يحيا الربيع”، وكرر نجاد الشعار ذاته عشية الاحتفالات بذكر انتصار الثورة، مما يعني أن الحملة الانتخابية لهذا التيار قد بدأت فعلياً.
في ظل هذا التعنت من قبل تيار أحمدي نجاد، فإن الواقع يقول أن اللجوء إلى أي حل سياسي متطرف، في ظل ظروف التي يعيشها المجتمع الإيراني حاليا، قد تؤدي إلى حالة من الانفجار الشعبي، وهذا يعني منح الضوء الأخضر لبروز نتائج الضغوطات المتراكمة والناجمة عن الغضب الذي يتعرض له المجتمع. هذا الانفجار الاجتماعي لن يكون من خلال مظاهرات عشوائية أو شباب غاضبين يتوجهون إلى الشوارع، بل من خلال القوى الشعبية المتوارية حاليا، والتي تنتظر فرصة الانقضاض، وحينها لن تهدأ من دون إحداث تغيير جذري في النظام القائم. وللحيلولة دون حدوث مثل هذا الانفجار الاجتماعي، فإن الحرس الثوري يعد المؤسسة الوحيدة المؤهلة للوقوف في وجه ذلك وإحباطه.
فمن جانب، يتمتع الحرس الثوري بقوة وحزم شديدين، ومن جانب آخر، يملك القدرة على التدخل والتقدم بشكل سريع، مما قد يؤدي إلى اجتثاث أي محاولة شعبية من هذا النوع. الأهم في نظري، أن إمبراطورية الحرس الثوري تهيمن على معظم المفاصل الاقتصادية والسياسية والثقافية في البلاد. هذه القوة لا تستطيع أن تكتفي بدور اللعب بعيداً عن الأضواء وتقمص دور المراقب، بل أن لديها القدرة على التدخل في الوقت الذي تراه مناسبا، الأمر الذي يمنحها الأفضلية على كافة التيارات الأخرى، لذا فمن الطبيعي أن يستخدم قوته العسكرية ونفوذه المؤسساتي في مثل هذه الحالات والدخول عند الحاجة كقوة سياسية حاسمة.
التيار المنحرف
تعامل الحرس الثوري سيكون مماثلا لدوره الذي لعبه إبان انتخابات عام
2009، حيث استخدم قوة القمع ضد أنصار الموجة الخضراء وقياداته ووسم ـ إلى
جانب الفصائل المتشددة الأخرى- الحركة الإصلاحية بـ”تيار الفتنة”، وبالتالي
تم اعتقال الموالين لها وفرض الإقامة الجبرية على قياداتها. لذا فإن الدور
هذا العام سيكون على أنصار أحمدي نجاد وتياره “المنحرف”، كما يطلق عليه
التيار المحافظ في إيران. وقف خامنئي في عام 2009 إلى جانب أحمدي نجاد،
وكان حينها الابن البار للمرشد والنظام، ولكن استمرار الحال من المحال، فها
نحن نشاهد امتعاض المرشد من رئيس الجمهورية، وقد طلب منه غير مرة بالتعاون
مع رؤساء القوتين التشريعية والقضائية والابتعاد عن أي صراع مع رئيس
البرلمان تحديدا. الفرق بين انتخابات 2009 وانتخابات هذا العام تكمن في أن
الشارع الإيراني وقف في الانتخابات الماضية إلى جانب من يراه ممثلاً له،
ودعمت الطبقة الوسطى من المجتمع الإيراني التيار الإصلاحي خاصة المرشح مير
حسين موسوي، إلا أن انتخابات هذا العام ستشهد في الغالب غياب هذا التيار
السياسي عن الساحة، وبالتالي لا يوجد أي تيار سياسي يستطيع زعم استناده إلى
قاعدة اجتماعية وشعبية تسانده خلال الانتخابات. لذا فإن صراع القوى الذي تشهده الساحة الإيرانية حاليا، لا يمكن أن يستوعب كافة فصائل وتيارات النظام الحالي، وبات من الضروري التخلص من بعض هذه الفصائل لضمان استمرار النظام، وربما يصل الأمر إلى ما يمكن اعتباره “انقلابا” من داخل النظام يقوم به على الأرجح الطرف الوحيد المؤهل لذلك، وهو الحرس الثوري، وذلك بهدف السيطرة على الأوضاع قبل تفاقم الأزمة. أي أن الحرس الثوري سوف يتخلى مؤقتاً عن مهمة حراسة الحدود ومساندة الجيش ضد أي خطر خارجي، بل ويتجاوز الحدود التي رسمت له ويدخل الصراع الداخلي كقوة سياسية ضاربة، إلى جانب قوته الاقتصادية والعسكرية كما ذُكر آنفاً. وهذا يعني أن الحرس الثوري يستخلص من الفصائل السياسية الحالية، بما في ذلك التيار المحافظ المقرب من المرشد وتيار رفسنجاني المعتدل، وتيار أحمدي نجاد، وبطبيعة الحال، التيار الإصلاحي في حالة قرر خوض غمار الانتخابات القادمة. ويبدو أن الحرس الثوري جاد فعلياً في ذلك، فقد لمح أحد قياداته قبل فترة أن بعض فصائل الحرس الثوري وأجنحته على أهبة الاستعداد للتدخل خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، متى ما تطلب الأمر ذلك.
ختاماً، لا يخفى على الجميع أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، يعاني من حزمة من الأزمات يقوي كل منها الآخرى، ومن أهمها أزمة البرنامج النووي، الضغوط الناجمة عن العقوبات الدولية، الانهيار الاقتصادي ومخاطر الانفجار الاجتماعي، وفوق ذلك كله صراع الذئاب أو الصراع على السلطة بين الفصائل السياسية داخل دائرة ولي الفقيه الضيقة أساسا. وبالتالي، فإن أهم ما يقلق النظام الإيراني ويشعره بالخطر الداهم، هو أن حل هذه الأزمات الخانقة لن يتحقق من خلال حل كل أزمة على حدة، بل إنها مترابطة ومتداخلة إلى حد كبير. الأمر يعد في حسابات النظام الإيراني مسألة حياة أو موت، فإما أن ينجح النظام في إيجاد حلول جذرية لهذه الأزمات، أو أنها ستؤدي مجتمعة إلى كتابة آخر صفحة في عمر نظام ولي الفقيه.
المصدر: مجلة المجلة