شؤون إيرانية
بقلم: محمد السلمي
تحيط بنا في دول الخليج العربي دول وشعوب متنوعة الثقافات ومتباينة من
الناحية الآيديولوجية والفكرية، وبطبيعة الحال التاريخية، والعلاقات بين
تلك الدول ودول الخليج العربي مرت وتمر بمراحل تتأرجح بين التوتر والجمود
تارة، والتحسن والتقارب تارة أخرى. وفي جميع الحالات، نحتاج لأن نتعرف عن
كثب على طريقة تفكير شعب أو حكومة دولة ما لكي نستطيع أن نتواصل معها
بالطريقة الصحيحة من دون مبالغة أو أي أحكام مسبقة، كما أنه في الوقت ذاته
لا يمكننا مطلقا تجاهل دولة جوار ونزعم أننا لا نكترث بما ينشر في وسائلها
الإعلامية ولسنا في حاجة إلى فهمها. إن هذا هروب من الحقيقة وابتعاد عن
واقع العصر الذي نعيشه والدور الذي يلعبه الإعلام في رسم الكثير من
السياسات والتأثير على الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء.
كتب الأستاذ مشاري الذايدي قبل حوالي ثلاثة أسابيع حول هذا الموضوع وتساءل عن وجود خليجيين متخصصين في الشأن الإيراني يجيدون اللغة الفارسية وثقافة إيران وتاريخها. ولعله أصاب في طرح هذا الموضوع الذي شخصيا تحدثت عنه كثيرا في بعض وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ليس هناك ما يمنع من طرحه مجددا وبشكل أكثر وضوحا لعله يجد آذانا صاغية هذه المرة.
بحكم التخصص في الشأن الإيراني، سأركز هنا على علاقتنا بالجار المطل على الخليج العربي من الجهة الشرقية. نحتاج بادئ ذي بدء أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل نفهم الجار الإيراني كما ينبغي؟ شخصيا، لا أعتقد ذلك، وهناك أسباب عدة سأطرح بعضها هنا. يجب أن نعترف بداية بأن معظم ما يصل وسائلنا الإعلامية الخليجية عن الداخل الإيراني يجري عبر وسيط ثالث، ألا وهو وكالات الأنباء العالمية، والغربية تحديدا، وهذا بطبيعة الحال لا يجعلنا على اطلاع تام على الأحداث هناك، ومتابعة المستجدات على الأرض أولا بأول. إضافة إلى ذلك، يجب أن نعترف أيضا بأن الإعلام الغربي يركز غالبا على الأحداث التي تكون داخل نطاق اهتماماته أو ما يكون مرتبطا بقضية دولية معينة، كالبرنامج النووي الإيراني وملف حقوق الإنسان ونحو ذلك.
لنطرح الفكرة بصورة أخرى: هل تتطرق وسائل الإعلام الدولية لما يعرض في الإعلام الإيراني ويخص الشأن العربي على وجه التحديد؟ بطبيعة الحال الإجابة ستكون بالنفي. إذن علينا كخليجيين التركيز على ذلك ورصده قبل غيرنا ونتابع بشكل لصيق كل ما يدور في دولة لا يفصلنا عنها إلا مسطح مائي لا يتجاوز عرضه عشرات الكيلومترات.
لهذا كله ولكي نفهم سياسة إيران والتصريحات الرسمية وغير الرسمية الصادرة من تلك الدولة نحتاج إلى فهم ثقافة الشعب الإيراني وطريقة تفكيره أيضا، نظرته لدول الجوار العربي، شعوبا وحكومات. هذا الفهم لا يمكن استنتاجه بسهولة من خلال تحليل مقال صحافي أو مقابلة تلفزيونية أو تصريح رسمي. تعقيدات الشخصية الإيرانية أكبر من ذلك بكثير، وما لم نفهم هذه الشخصية جيدا فقد يشعر البعض أحيانا بأن هناك حلقة مفقودة بسبب ما يبدو من الوهلة الأولى من تناقض في التصريحات وردود الفعل تجاه حدث ما.
بالأخذ في الاعتبار جميع ما تقدم نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري وهو ما نحتاج؟ وما الذي يجب علينا فعله؟ ما أود قوله هنا هو وببساطة شديدة حاجتنا الملحة جدا لتأسيس مركز يهتم بالشأن الإيراني وعلى كافة المستويات، سواء سياسية وتاريخية وثقافية واقتصادية، وفي مجال علم الاجتماع والأمن، ونحو ذلك.
لا ينبغي النظر مطلقا إلى المناداة بتأسيس مركز الدراسات الإيرانية على أنه يأتي كردة فعل على العلاقة المتوترة حاليا بين إيران ومعظم دول الخليج، حتى وإن كان ذلك محفزا قويا بحد ذاته، فعمل المركز لا ينبغي أن يكون كذلك ولا يتأثر بطبيعة العلاقات السياسية وتقلباتها مطلقا، بل يكون مركزا بحثيا يعمل على استراتيجية محددة وأهداف يسعى إلى تحقيقها.
ولعل من نافل القول التأكيد على أن معظم جامعات دول العالم الغربي تضم مراكز بحثية تهتم بالدراسات الإيرانية، ولا تكاد تخلو جامعة عريقة من هذه الأقسام والمراكز المهتمة بالشأن الإيراني. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك أكثر من مائة مركز دراسات ومركز بحثي يهتم بشكل كلي أو جزئي بالدراسات الإيرانية. هذا الأمر ينطبق أيضا على كافة الجامعات الأوروبية العريقة في بريطانيا، مثل أكسفورد، وكمبريدج، ولندن، أو جامعة ليدن الهولندية، وجامعتي برلين وبون الألمانيتين، والقائمة طويلة جدا.
من جانب آخر، هناك عشرات المراكز البحثية الإيرانية التي تركز بشكل مباشر على الشأن العربي وترصد كل ما يطرح في وسائلنا الإعلامية بشكل يومي. بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير، إذ تقوم مواقع إيرانية على الإنترنت بترجمة العناوين التي تتصدر صفحات الجرائد والمجلات العربية وتضعها بين يدي القارئ الإيراني ليكون على اطلاع على أهم ما يجري طرحه في دول الجوار العربي.
وللعودة إلى الفكرة الرئيسة، المركز الخليجي للدراسات الإيرانية الذي أتمنى أن يرى النور قريبا، ينبغي أن يكون من أولوياته إجراء دراسات أكاديمية بحثية معمقة تركز على الداخل الإيراني، اقتصاديا، سياسيا، ثقافيا وتاريخيا. أي أن الهدف هو تشكيل مركز دراسات إيرانية يهتم بالجانبين الأكاديمي والإعلامي، ويضم في عضويته أبناء الخليج العربي المهتمين بالشأن الإيراني. قد يرى البعض أن مركز الخليج للأبحاث الذي يشرف عليه الدكتور عبد العزيز بن عثمان بن صقر - وأنا أوجه له خالص التحية والتقدير - يقوم بنفس عمل المركز الذي أطالب به. نعم مركز الخليج للأبحاث يقوم بجهود رائعة تذكر فتشكر، ولكن نحن في زمن التخصص الدقيق، والمركز الذي أنادي بإنشائه يأتي مكملا لدور مركز الخليج للأبحاث، ولديّ الكثير من الأفكار والخطوط العريضة لطبيعة هذا المركز وأقسامه والمهام التي يجب أن تناط به.
ختاما، أعلم جيدا أن هناك شبابا متحمسين، وعدد منهم يتقنون اللغة الفارسية في عدد من دول الخليج العربي، وكل ما يحتاجونه هو مظلة مؤسسة بحثية تجمعهم معا لتجري الاستفادة منهم في خدمة أوطانهم، ويتبادلوا الخبرات فيما بينهم بعيدا عن العمل الفردي والعشوائي. هذا هو الهدف الذي أتمنى أن يتحقق قريبا، وأن تجد هذه الفكرة من يتبناها ويعمل على تحويلها إلى واقع ملموس.. والله من وراء القصد.
المصدر: الشرق الأوسط
كتب الأستاذ مشاري الذايدي قبل حوالي ثلاثة أسابيع حول هذا الموضوع وتساءل عن وجود خليجيين متخصصين في الشأن الإيراني يجيدون اللغة الفارسية وثقافة إيران وتاريخها. ولعله أصاب في طرح هذا الموضوع الذي شخصيا تحدثت عنه كثيرا في بعض وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ليس هناك ما يمنع من طرحه مجددا وبشكل أكثر وضوحا لعله يجد آذانا صاغية هذه المرة.
بحكم التخصص في الشأن الإيراني، سأركز هنا على علاقتنا بالجار المطل على الخليج العربي من الجهة الشرقية. نحتاج بادئ ذي بدء أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل نفهم الجار الإيراني كما ينبغي؟ شخصيا، لا أعتقد ذلك، وهناك أسباب عدة سأطرح بعضها هنا. يجب أن نعترف بداية بأن معظم ما يصل وسائلنا الإعلامية الخليجية عن الداخل الإيراني يجري عبر وسيط ثالث، ألا وهو وكالات الأنباء العالمية، والغربية تحديدا، وهذا بطبيعة الحال لا يجعلنا على اطلاع تام على الأحداث هناك، ومتابعة المستجدات على الأرض أولا بأول. إضافة إلى ذلك، يجب أن نعترف أيضا بأن الإعلام الغربي يركز غالبا على الأحداث التي تكون داخل نطاق اهتماماته أو ما يكون مرتبطا بقضية دولية معينة، كالبرنامج النووي الإيراني وملف حقوق الإنسان ونحو ذلك.
لنطرح الفكرة بصورة أخرى: هل تتطرق وسائل الإعلام الدولية لما يعرض في الإعلام الإيراني ويخص الشأن العربي على وجه التحديد؟ بطبيعة الحال الإجابة ستكون بالنفي. إذن علينا كخليجيين التركيز على ذلك ورصده قبل غيرنا ونتابع بشكل لصيق كل ما يدور في دولة لا يفصلنا عنها إلا مسطح مائي لا يتجاوز عرضه عشرات الكيلومترات.
لهذا كله ولكي نفهم سياسة إيران والتصريحات الرسمية وغير الرسمية الصادرة من تلك الدولة نحتاج إلى فهم ثقافة الشعب الإيراني وطريقة تفكيره أيضا، نظرته لدول الجوار العربي، شعوبا وحكومات. هذا الفهم لا يمكن استنتاجه بسهولة من خلال تحليل مقال صحافي أو مقابلة تلفزيونية أو تصريح رسمي. تعقيدات الشخصية الإيرانية أكبر من ذلك بكثير، وما لم نفهم هذه الشخصية جيدا فقد يشعر البعض أحيانا بأن هناك حلقة مفقودة بسبب ما يبدو من الوهلة الأولى من تناقض في التصريحات وردود الفعل تجاه حدث ما.
بالأخذ في الاعتبار جميع ما تقدم نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري وهو ما نحتاج؟ وما الذي يجب علينا فعله؟ ما أود قوله هنا هو وببساطة شديدة حاجتنا الملحة جدا لتأسيس مركز يهتم بالشأن الإيراني وعلى كافة المستويات، سواء سياسية وتاريخية وثقافية واقتصادية، وفي مجال علم الاجتماع والأمن، ونحو ذلك.
لا ينبغي النظر مطلقا إلى المناداة بتأسيس مركز الدراسات الإيرانية على أنه يأتي كردة فعل على العلاقة المتوترة حاليا بين إيران ومعظم دول الخليج، حتى وإن كان ذلك محفزا قويا بحد ذاته، فعمل المركز لا ينبغي أن يكون كذلك ولا يتأثر بطبيعة العلاقات السياسية وتقلباتها مطلقا، بل يكون مركزا بحثيا يعمل على استراتيجية محددة وأهداف يسعى إلى تحقيقها.
ولعل من نافل القول التأكيد على أن معظم جامعات دول العالم الغربي تضم مراكز بحثية تهتم بالدراسات الإيرانية، ولا تكاد تخلو جامعة عريقة من هذه الأقسام والمراكز المهتمة بالشأن الإيراني. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك أكثر من مائة مركز دراسات ومركز بحثي يهتم بشكل كلي أو جزئي بالدراسات الإيرانية. هذا الأمر ينطبق أيضا على كافة الجامعات الأوروبية العريقة في بريطانيا، مثل أكسفورد، وكمبريدج، ولندن، أو جامعة ليدن الهولندية، وجامعتي برلين وبون الألمانيتين، والقائمة طويلة جدا.
من جانب آخر، هناك عشرات المراكز البحثية الإيرانية التي تركز بشكل مباشر على الشأن العربي وترصد كل ما يطرح في وسائلنا الإعلامية بشكل يومي. بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير، إذ تقوم مواقع إيرانية على الإنترنت بترجمة العناوين التي تتصدر صفحات الجرائد والمجلات العربية وتضعها بين يدي القارئ الإيراني ليكون على اطلاع على أهم ما يجري طرحه في دول الجوار العربي.
وللعودة إلى الفكرة الرئيسة، المركز الخليجي للدراسات الإيرانية الذي أتمنى أن يرى النور قريبا، ينبغي أن يكون من أولوياته إجراء دراسات أكاديمية بحثية معمقة تركز على الداخل الإيراني، اقتصاديا، سياسيا، ثقافيا وتاريخيا. أي أن الهدف هو تشكيل مركز دراسات إيرانية يهتم بالجانبين الأكاديمي والإعلامي، ويضم في عضويته أبناء الخليج العربي المهتمين بالشأن الإيراني. قد يرى البعض أن مركز الخليج للأبحاث الذي يشرف عليه الدكتور عبد العزيز بن عثمان بن صقر - وأنا أوجه له خالص التحية والتقدير - يقوم بنفس عمل المركز الذي أطالب به. نعم مركز الخليج للأبحاث يقوم بجهود رائعة تذكر فتشكر، ولكن نحن في زمن التخصص الدقيق، والمركز الذي أنادي بإنشائه يأتي مكملا لدور مركز الخليج للأبحاث، ولديّ الكثير من الأفكار والخطوط العريضة لطبيعة هذا المركز وأقسامه والمهام التي يجب أن تناط به.
ختاما، أعلم جيدا أن هناك شبابا متحمسين، وعدد منهم يتقنون اللغة الفارسية في عدد من دول الخليج العربي، وكل ما يحتاجونه هو مظلة مؤسسة بحثية تجمعهم معا لتجري الاستفادة منهم في خدمة أوطانهم، ويتبادلوا الخبرات فيما بينهم بعيدا عن العمل الفردي والعشوائي. هذا هو الهدف الذي أتمنى أن يتحقق قريبا، وأن تجد هذه الفكرة من يتبناها ويعمل على تحويلها إلى واقع ملموس.. والله من وراء القصد.
المصدر: الشرق الأوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق